قالت الدنيا:
ماذا تريد يا عبد الله؟ ها أنا ذا أمامك
قلت وأنا متأسف:
إنه ليحزنني أنني أحبك وأهواك، ولا أستطيع أن أتركك
الدنيا:
نعم إنه لشعور طبيعي، ومن ادعى أنه لا يحبني فهو كاذب فأنا من خلق الله تعالى،وأنا محبوبة إلى النفوس
عبد الله:
وكيف تقولين إن هذا شعور طبيعي؟
الدنيا:
نعم إنه لشعور طبيعي، ولكن الخطأ الذي يقع فيه أكثر الناس أنهم يقدمون أمري على أمر الآخرة
عبد الله:
وهل أنا منهم؟!
الدنيا:
نعم، ولكن فيك صفات طيبة
عبد الله:
وكيف أعرف حقيقتك؟!
الدنيا:
من قول الرسول . .الدنيا حلوة خضرة
فقد وصفني النبي بأني خضرة ولكني بالنسبة للمؤمن سجن له لقوله عليه السلام ( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )
عبد الله:
ولكني أعرف بعض المؤمنين يعيشون في نعيم ورفاهية!!
الدنيا:
ليس المراد بالسجن هو السجن الحديدي الذي تفهمه وإنما هو التقييد بما أمر الله وما السجن إلا قيد
ولهذا قيل فيّ..
يا ابن آدم أنت في حبس منذ كنت.. أنت محبوس في الصلب ثم في البطن، ثم في القماط، ثم في المكتب ثم تصير محبوساً في الكد على العيال
فاطلب لنفسك الراحة بعد الموت حتى لا تكون في الحبس أيضاً
عبد الله:
الله إنه لمعنى أدبي جميل. لقد فهمت الآن، ولكن ما سبب تسميتك بالدنيا؟؟
الدنيا:
لو علم الناس معني اسمي لما فتنتهم زينتي. إن اسمي له معنيان:
من الدنو: أي قريبة الزوال والانتهاء
ومن الدناءة: أي القبح إذا ما قارنتني بالآخرة
عبد الله:
وكيف أتعامل معك حتى لا أفتن؟!
الدنيا:
إن هذا السؤال خطير تجعلني أبوح بسر من أسراري
لأني أصطاد الناس أحياناً بالأموال وأحياناً بالنساء
وأحياناً بالمناصب وكذلك من زينتي، والزينة من صفاتها أنها مؤقتة
وهل رأيت يوماً زينة عرس دائمة؟ أو زينة عروس دائمة؟!
عبد الله:
يا دنيا أجيبي عن سؤالي ولا تبتعدي، فكيف أتعامل معك ولا أفتن؟
الدنيا:
مهلاً، يا صاحبي فلا تتعجل عليّ
ثم قالت:
أهم صفة ينبغي أن تتوفر في الذي يتعامل معي هي: (اليقظة والفطانة)
فأنا حاضرة الملذات وحاضرة الشهوات فمن جعلني معبراً للآخرة فهو الناجي ومن جعلني مستقراً فهو الخاسر
فأنا دار بلاغ ولست بدار متاع
وقد قال الحسن البصري – رحمه الله:
(إياكم وما شغل في الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال ولا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب)
عبد الله:
إذن سوف أعتزلك تماماً حتى أنجو
الدنيا:
ليس هذا الذي أردت.. ولكن ينبغي أن تتعامل معي بحذر
وكلما فتح لك باب من الدنيا افتح أنت باباً للآخرة حتى لا تنسى نصيبك منها وتعيش متزناً كما أمرك الله تعالى
عبد الله:
ولكني أخاف
الدنيا:
لا تخف وافهم كيف تتعامل مع زينتي
ولا تكن كما قال ابن مسعود – رضي الله عنه؟
عبد الله:
وماذا قال ابن مسعود – رضي الله عنه؟
الدنيا:
قال: (لا ألفين أحدكم جيفة ليل، قطرب نهار)
عبد الله:
وما معنى قطرب نهار؟
الدنيا:
أي: هي الدويبة التي تجلس هنا ساعة وهنا ساعة فلا تستريح نهارها سعياً...
وهكذا بعض الناس يتحرك في أمر دنياه ليل نهار ولا يفكر في أمر الآخرة
((فأبن آدم مسكين لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة))
عبد الله:
وبماذا توصيني؟
الدنيا:
أوصيك بتذكر قول الله تعالى دائما..
((واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلظ به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذره الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً))
وإن كنت تحذرني مرة فاحذرني بعد اليوم ألف مرة
عبد الله:
لا أظن أنك ستفتنيني بعدما تصارحنا؟
الدنيا:
((قالوا للغراب مالك تسرق الصابون؟ قال: الأذى طبعي))
وأنا أقول لك إن الفتنة طبعي، فأحذر أن تكون من عشاق الدنيا...
واحذر أن تكون جيفة ليل قطرب نهار
ثم اختفت الدنيا فجأة...
فأخذ عبد الله ينادي...
يا دنيا .. يا دنيا... فلم يجبه أحد...
ثم طأطأ رأسه وقال:
الحمد لله الذي وفقني لفهم حقيقة الدنيا ثم أنشد:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً بأن جميع حياتي كساعة
فلم لا أكون ضنيناً بهـا وأجعلها في صلاح وطاعة