سيدي.. أنا سيدة في بداية الثلاثينيات, كنت متزوجة, وكان لي ابن وابنة!.. نشأت في أسرة مكونة من أب ميسور الحال, يشغل مركزا مرموقا, ولكنه للأسف الشديد, لم يكن يمثل لنا شيئا غير واجهة اجتماعية أمام الناس, بالإضافة إلي تحمل مسئولية الإنفاق علي البيت بالطبع.. أما أمي فقد كانت هي صاحبة الكلمة الأولي والأخيرة علينا, وعلي أبي, ولا أعرف لماذا.. قد يكون لأن شخصيتها قوية, ومتعجرفة, ومغرورة!
كان لي أخ يكبرني بعامين, وأخت تصغرني بثلاثة أعوام, ومنذ صغرنا سيدي ونحن لانعرف غير أهل أمي, نزورهم, ويزوروننا, أما أهل أبي فلا نعرفهم, ولا نراهم سوي في المناسبات البعيدة جدا, وكنا نسأل أمي عن ذلك, فتقول لنا: إنهم طمعانين في أبيكم, ولا يعرفونه إلا لطلب الأموال, أو لطلب مصلحة, أو خدمة, وكانت دائما تردد جملة لاتفارق لسانها: أنا معايا القمر, مالي أنا ومال النجوم بمعني أن معها أبي, فلماذا تهتم بأهله؟!
كبرنا علي ذلك, والتحقت بالجامعة, وتقدم لخطبتي صديق أخي.. طبيب شاب, له مستقبل كبير, وكان حسب تعبيره هيموت من أجل الارتباط بي, فقد كنت حلم حياته.. فهو من أسرة بسيطة, والده رجل مكافح, تعب حتي أصبح ابنه دكتور أد الدنيا, مثلما كان يقول, وهو وحيد علي بنات ثلاث, علي وشك الزواج.. ووافقت علي الخطبة, أنا وأبي, بعد موافقة أمي بالطبع, وتم الزفاف بعد أن نفذ زوجي كل طلبات أمي, من شبكة وشقة وأثاث!!
سيدي.. منذ اليوم الأول لزواجي, حاولت أن أبعد زوجي عن أهله, فكنت أشعر بأنهم ناس بسطاء جدا, ميشرفوش في أي مناسبة, مثلما كانت تقول أمي, فكنت أقابلهم بفتور عندما يزوروننا, حتي لايكرروا الزيارة, بينما كنت أتبادل الزيارات يوميا مع أهلي, وكان زوجي يرافقني فيها بكل حب وكرم.. وقد كنت أتحجج عندما يطلب مني الذهاب معه لزيارة أهله, مع أني لم أسمع, أو أر منهم أي سوء طوال فترة زواجي, أو بعدها, وكنت أقول ذلك لأمي, فكانت تردد جملتها الشهيرة: أنت معاك القمر, مالك ومال النجوم, فأهله طمعانين فيه, ويريدون منه الانفاق عليهم!!
رزقني الله ببنت وولد, ولا أستطيع أن أصف لك سيدي مدي سعادة زوجي بهما, فكان يقول لي دائما إنهما كل حياته, وروحه متعلقة بهما, ولا يتحمل فراقهما, ولو ساعة واحدة... وفي يوم من أيام شهر رمضان طلب مني زوجي أن أجهز إفطارا, لأن أخته وخطيبها, ووالديه سيحضرون معه لتناول الإفطار عندنا, وكنت حينها سمعت أن زوجي هو الذي سيتولي مصاريف جهاز أخته, فوالده لايمكنه تحمل هذه المصاريف, وعندما حضروا قبل الإفطار بساعة, فوجئ زوجي بأنني لم أجهز أي طعام للإفطار, فأصيب بحرج شديد, وعلي الفور طلب إفطارا من أحد المطاعم, ولم يشعرهم بشيء, وتظاهر بأني مريضة, وتناولوا الإفطار, ثم انصرفوا, ودخل علي زوجي حجرتي, وهو ثائر جدا, وتشاجر معي, وقال لي كيف أضعه في هذا الموقف المحرج, وأخبرني أنه تحملني كثيرا, ولكن عند الإهانة لم تعد لديه طاقة.. أخبرته بما سمعته عن تحمله نفقات جهاز أخته, فتخيلت أنه سينكر, ولكني وجدته يقول لي نعم.. إني أنفق علي أهلي, وسوف أجهز أختي, ليس هي فقط, بل اخواتي الثلاث, فقد تعب والدي حتي أصبح هكذا, ولن أتخلي عنه في يوم من الأيام حتي لو خلعت هدومي, وأعطيتها له.. ل
م أتمالك نفسي ساعتها, وتطاولت عليه, فصفعني علي وجهي, وأحسست أن الأرض تنهار من تحتي, صعقت لما حدث منه, فقد كان كالبركان الثائر, أخذت أولادي, وتركت البيت, وذهبت إلي منزل أمي!!
كالمعتاد, ثارت أمي, وتوعدته بالويل, والبهدلة لما فعله معي, ولكن زوجي عندما هدأت أعصابه حضر إلي, واعتذر, وطلب مني العودة, فما كان من أمي إلا أن أعطته الواجب وزيادة, فأعطاني فرصة للتفكير, فطلبت منه أمي كتابة قطعة أرض ملكه باسمي, وأن يضع باسمي مبلغا في البنك.. و... و... و, فرفض زوجي الاستبداد بهذه الصورة, وطلب مني ألا نشرك أحدا في مشاكلنا, ولكني عاندت, وركبت رأسي, وازدادت المشاكل, وطلبت الطلاق, فرفض.. فألححت في الطلب, ثم سعيت لرفع قضية خلع, وما إن علم بذلك, حتي أسرع وطلقني في هدوء, وترك لي الشقة وأعطاني مؤخر الصداق, والنفقة, وكل مستحقاتي وزيادة, واشتطت أنا غضبا, فكيف يطلقني وأنا اللي كان هيموت عليها, كيف يطلق بنت الحسب والنسب, أين الحب, والأولاد؟! لم أكن أتخيل أن يملك الجرأة يوما ليفعلها!.. حرمته من رؤية ولديه, وأنا أعرف أنهما نقطة ضعفه, وبعد معاناة منه, وفشله في كل المحاولات, حكمت له المحكمة برؤيتهما يوما في الأسبوع بالنادي, فكنت أتعمد فعل أي شيء لكي أمنعهم عن رؤيته!!
ظللنا سيدي علي هذه الحال, حتي علمت أنه علي وشك خطبة طبيبة, وأستاذة معه في الجامعة, فقامت ثورتي, وذهبت له في عمله, وتطاولت عليه, فقال لي إنه كان يحبني وانني الذي أضعت هذا الحب من قلبه, حتي أصبح الآن لا يطيق رؤيتي, لما أفعله معه, ولما سببته له من فضائح, تركته وانصرفت بعد أن أحسست أني قد فقدت حبه واحترامه, إلي أن جاء اليوم الموعود!!
في يوم عيد ميلاد ابني دق جرس الباب, فوجدته هو, وقد حمل هدية لابني بين يديه, فرفضت دخوله, ومنعته من رؤية طفليه, وصاح أخي وهم بالسماح له بالدخول, إلا أنه لم يصمد أمام إصرارنا, أنا وأمي, علي طرده وتوبيخه, وبكي ساعتها ابناي, وطلبا الذهاب مع أبيهما فأدخلتهما حجرتهما, وطردته, فخرج, وترك هدية ابنه, وهو يقول: حسبي الله ونعم الوكيل, لقد أردت أن تكون هذه آخر محاولة معك, ولكنك كما أنت, ولا ندم علي أي شيء أفعله بعد ذلك, وبعد أن خرج تشاجر أخي معي أنا وأمي, وأثناء الشجار دخل ابني البلكونة دون أن ندري, ونادي علي أبيه, وما إن نظر إليه أبوه, إلا واختل توازنه, وسقط من الدور الرابع, وصدمنا نحن بصوت الارتطام والصياح في الشارع!!
هرولنا للبلكونة, فوجدت ابني علي الأرض ينزف دما من كل جسده, فأسرعت إلي أسفل, ولا أعلم حتي الآن كيف حملتني ساقاي حتي نزلت علي السلم, فوجدت زوجي يفترش الأرض, وابني في حضنه, وكل ملابسه ملطخة بالدماء!! أسرعنا في سيارة يقودها أحد الجيران, إلي أقرب مستشفي, ولكن بعد دقائق فارق ابني الحياة, وليس هناك كلمات تصف لك هذه اللحظات بل الساعات التي عشناها, فلم يستوقفني عن حزني وشرودي, سوي مشهد زوجي وهو ساجد علي الأرض في المستشفي يدعو ربه أن يلهمه الصبر!!
مرت الأيام سيدي, وأنا لا أدري ما حدث, فقد كنت في عالم آخر, ولكني علمت أن زوجي ترك عمله, وأغلق عيادته, وأطلق لحيته, واعتزل الناس, وتدهورت صحته, وكره الدنيا ومن فيها, حاولت أن أقابله, ولكنه رفض.. أما ابنتي فمنذ حادث أخيها لا تطيق النظر في وجهي, ولا تريد رؤية أبيها, فهي تعيش الآن عند خالها, وتقول لي: أنت السبب ياماما في موت أخي, أنا بأكرهك, وبأكره بابا وتيته, والناس كلها!!
سيدي.. أنا مستعدة الآن لتقبيل رجل زوجي, ليصفح عني, لا بغرض أن يعيدني إليه, ولكن ليسامحني علي ما فعلت معه, فكفي عقاب الله لي, وحرماني من ابني وقرة عيني أمام عيني, بهذه الطريقة التي لن تمحي من ذاكرتي طوال الدهر... أرجو أن يسامحني زوجي من أجل ابنتي التي انهارت, وكل يوم صحتها إلي الأسوأ, ولا أستطيع تحمل فقدها هي الأخري, فأنا أنزف بدلا من الدموع دما, وأحزان الدنيا كلها لاتكفيني, وسأظل مسكونة بالندم طوال عمري, وسامح الله أمي, فقد كانت هي السبب!!
* سيدتي.. أقاوم بكل ما أوتيت من قوة مشاعري الغاضبة والموجوعة تجاهك أنت ووالدتك بسبب هذا المشهد الدامي والموقف العصيب الذي ذهب بطفل ليس له أي ذنب سوي أنه كان يحب أباه كما كان يحبك.. ولكني سأحاول أن أنحي مشاعري الباكية جانبا, لأنه إذا كان هذا هو حالي لمجرد أن قرأت رسالتك, فكيف يكون حالك وأنت أمه, ففي الوقت الذي تستحقين فيه اللوم والعتاب علينا أن نقدم العزاء والدعاء لك بالصبر علي الابتلاء الذي ذهبت إليه بكامل إرادتك, بسبب الغرور والعناد والأنانية كما قلت في رسالتك.
نعم سيدتي تربيتك الخاطئة لها دور كبير فيما وصلت إليه, ولكن الركون دائما إلي سوء التربية يجعلنا نتجاهل أهم ميزة رزقنا بها الله وهي العقل, فإذا لم تتبيني الخطأ من الصواب في صغرك, فكيف يمكن قبول كل هذا الخطأ وأنت كبيرة وناضجة بما يكفي لتمييز ما هو حسن وما هو قبيح.
لم يكن الخطأ في نظرية والدتك الغريبة فقط, بعزل والدك عن أسرته, مستندة إلي منطق غريب, طالما القمر معي فما جدوي النجوم, متناسية أن القمر يغيب ويختفي وتصبح النجوم هي بطل السماء, ولا يستقيم جمال القمر وبهاؤه بدون النجوم التي تحيط به وتصنع له الهالة والقيمة والفارق.
لم تفهم والدتك ــ كما يفعل مثلها الكثيرون ــ أن الله عندما ميز زوجها وجعله مسئولا, فهذا تكليف حتي يلبي طلب السائلين من أهله ومن غيرهم, وأن الانسان عندما يبخل بما ميزه الله يذهب بنعمته ويجعله من السائلين فأي الأمرين أفضل. لذلك أقول لك إن الخطأ أيضا يقع علي والدك ــ ومن مثله من الأزواج والآباء ــ فقد فرط في قوامته ولم يمارس حق رجولته في أن يعيد والدتك إلي صوابها ويصلح اعوجاجها, مما زادها في طغيانها.
لاتجعلي التربية تكئة لكل مخطئ, فأخوك لقي نفس التربية ولكنه رفض سلوككما واعترض عليه ولكنكما لم تفيقا أو تستجيبا.
سيدتي.. كلماتي الآن ليست لك فقط ــ ولكنها لكل زوجة يغرها عنادها وطيبة زوجها, فتنكر عليه أصالته وبره بأسرته, فإذا لم يفعل كيف ستأمنينه عليك وعلي أبنائك. وكيف تطالبين ابنا بارا نجح والده البسيط في أن يجعله أستاذا جامعيا, وهذا بالطبع قد يكون علي حساب شقيقاته, أن يتنكر لهن ويحرمهن مما أكرمه به الله.
كم كانت تلك النهاية قاسية ومؤلمة لكل الأطراف. عصفوركم ينزف أمام عيونكم ويموت في حضن أبيه المشتاق إليه, المتعاطف معه. وها هي سيارة الفراق تجمعكم في أصعب لحظة مميتة في حياتكم بعد أن رفضت أن تجمعكم بالحب والسكينة والمودة والرحمة.
سيدتي.. لا أستطيع أن أقول لك شيئا, فيكفيك ما بك, أنت الآن تعرفين جيدا حجم خطئك وتعيشين أياما صعبة ادعو الله أن يهونها عليك ويمنحك الصبر والسكينة, وأعتقد أن والدتك الآن فهمت وإن كان متأخرا كيف جنت عليك, ولكن الذي يجب أن أحادثه هو هذا الأب المكلوم في ابنه لأني أحس بما يعانيه الآن, ولكني اختلف معه فيما وصل إليه. فلا أحد يستطيع إنكار الحزن والاحباط عليه, أما اعتزال الحياة وإغلاق العيادة الخاصة والغياب عن ابنته جريمة لاتليق بمن له مثل هذا الخلق العظيم.
سيدي.. ما حدث لابنك قدر محسوم ومحدد منذ مولده, وما كان الله يخطئ أبدا قدره علينا, فابنك مات في موعده وهو الآن شفيع لك في الجنة مع الشهداء, فهل تحزن لما هو فيه, لما يتمناه أي إنسان لمن يحب؟
فإذا سلمنا بأنك تعلم أين استقر فلذة كبدك, فهل هناك أفضل مما هو فيه؟
ماذنب أسرتك إذن وهي تعتمد عليك في الكثير الذي تستحقه منك؟ وما ذنب تلاميذك ومرضاك لتحرمهم من علمك الذي أكرمك الله به؟ وما ذنب ابنتك البريئة حتي تعيش معذبة في مرحلة هي أحوج ما تكون فيها إلي حنانك واحتوائك وعقلك؟
سيدي.. لن أطالبك بأن تعود إلي زوجتك النادمة الباكية دما فقد يكون هذا صعبا عليك, وإن فعلت فستكون من العافين عن الناس, الله يقبل التوبة ويغفر لعباده التائبين, فلماذا لا نحاول نحن؟ أعرف أنه صعب ولكنه يتوقف علي قدرة كل إنسان, فقد يكون هذا القرار لصالح طفلة لم تجن ذنبا, ولن يسعدك أن تدفع ثمن أخطاء لم ترتكبها.
فإذا لم تستطع فليس أمامك إلا أن تنفض عنك غبار الحزن وتستعين بالله ليمنحك الصبر فتعود إلي عملك, وتضم ابنتك في حضنك وتصالحها علي ما تخاصمت معه, قربها إليك وأخبرها أنك عفوت عن أمها.
سيدي.. أثق في حكمتك وإيمانك وادعو الله أن يعينك علي ما أصابك, وأتمني أن تطمننا علي عودتك إلي كل أحبابك, وعودة طفلتك إلي حضنك الدافئ.. ولك كل المحبة, والدعوات الصادقة بالصبر للأم الثكلي..